تتعالي اليوم بشكل لافت، مقرف، نتن و منبه الأصوات العنصرية و الشرائحية و المناطقية... وقد جفت أقلام و حلوق كثير من الشرفاء و الحادبين علي هذا الوطن من التنديد و المطالبة بالترشيد و الضغط ملء قوة اليد علي أجراس الإنذار و الحث علي الاستشراف المبكر للمستقبل و البدائل...
ولقد تابعت باهتمام و نهم "صيحات القلب"les cris de coeur تلك و استمعت و قرأت سوادها الأعظم فما وجدت فيها من يقدر نوع و حجم الوجع إلا القائلين بترك الظواهر العرضية و معالجة السبب الرئيس الذي يتلخص في "هزيمة المواطنة" أمام ثالوث العنصرية و الشرائحية و المناطقية بسبب فشل المدرسة الجمهورية التي هي الخلية الأولي للمواطنة.
أجل، فإذا كانت الأسرة هي الخلية الأولي للمجتمع التي إذا تم إعدادها إعدادا حسنا كان ذلك ضامنا لإعداد شعب طيب الأعراق...و إذا كانت التجربة البلدية كما يقول فقهاء القانون الدستوري و الإداري هي الخلية الأولي للديمقراطية التي إذا نجحت نضجت الديمقراطية و رسخت فإن المدرسة الجمهورية بكل تأكيد هي الخلية الأولي للمواطنة و لله در من قال أو سيقول "اعطني مدرسة جمهورية ناجحة أعطيك وطنا منسجما و صالحا "..
المدرسة الجمهورية إذن هي الخلية الأولي للمواطنة و هي بمثابة المضغة التي إذا صلحت صلحت المواطنة و قوي الوطن- و إذا فشلت المدرسة الجمهورية غابت المواطنة و تكاثرت الدعوات العنصرية و المناطقية و الشرائحية... إلي أن يصل الأمر حدا يتم تصنيفه "بالخطر الوطني" .
ولا أخال حال المدرسة الجمهورية اليوم إلا سائرا بالوطن بسرعة ، من غير هدي و لا كوابح نحو جدار"الخطر الوطني" إذ قليلا ما يجمع الموريتانيون علي شيئ لكنهم اليوم مجمعون علي اختلاف أعراقهم و ألسنتهم و مواقعهم و مراتبهم و مواقفهم... علي أن المدرسة الجمهورية تعيش أزمة عميقة جعلتها تفقد ثقة كافة الفاعلين في الحقل التعليمي من أساتذة و معلمين و طاقم تربوي و وكلاء التلاميذ و التلاميذ أنفسهم...
و مما يفقأ العين من مظاهر فشل المدرسة الجمهورية ما هو ملاحظ من البؤس و ضعف المستويات و احتضان الشذوذ و الانحراف و العنف المدرسي.. و الذي بلغ حدا أفقدها ثقة الناس فيها حتي أضحت " مصانع" للعرقية و الشرائحية و الطبقية و هي التي يفترض أن تكون مدرسة للجمهور و العموم يتساوي بل يتعلم و يتعود فيها التعايش و الأخوة الوطنية الأبيض و الأسود، العربي و الزنجي، الفقير و الغني.
ضف إلي ذلك أنها من الناحية التربوية أقرب "للسجون التعزيرية المؤقتة"،"سجون الساعات الستة يوميا" منها إلي المدارس و دور العلم و التعلم.
و يمكن تصنيف ما هو موجود اليوم في بلادنا من المدارس إلي ثلاث فئات: مدارس شبه شرائحية و مدارس شبه عرقية و مدارس "طبقية ".
فبخصوص المدارس شبه الشرائحية فإنه من الملاحظ أن كل من له بسيط استطاعة مالية هجر المدرسة العمومية حتي أمست مدرسة أبناء الضعفاء و الفقراء.
و الموجود من تلك المدارس في الأحياء الميسورة بالمدن الكبري يعتبره الرأي العام مدارس أولاد عمال المنازل و حراس المنازل المسكونة و المنازل التي في طور الإنشاء والعمال اليدويين الذين يسكنون الساحات العمومية و بعض الاقتطاعت العقارية الخصوصية الكبيرة و الذين ينتمون في الغالب الأعم إلي "جماعة وطنية معينة" أو شريحة معينة حسب المصطلح الإعلامي ذائع التداول فأقل ما يمكن أن يقال عن هذا الصنف من المدارس أنها مدارس شبه شرائحية.
أما فيما يتعلق بالمدارس شبه العرقية فتنتشر في الحواضر الكبري نواكشوط و نواذيبو خصوصا مدارس يديرها موريتانيون منها ما يدرس المنهج الفرنسي الخالص و يدرس اللغة العربية لغة ثانية أو ثالثة أحيانا و منها ما يدرس المنهج الموريتاني بتصرف.
و يكاد يكون منتسبو هذه المدارس من عرق واحد( و لا ضير في تسمية الأمور بمسمياتها ما دام التعديل الدستوري الأخير نص علي أن موريتانيا دولة متعددة الأعراق) حيث يختلف عرق المنتسبين لها باختلاف عرق مالكها أو من يديرها.
فإن كان المالك أو المدير موريتانيا عربيا كان سواد المنتسبين عربا و إن كان المالك موريتانيا زنجيا كانت غالبية المنتسبين زنوجا حتي يخيل للمار حول مباني تلك المدارس بداية أو نهاية الدوام المدرسي أنها مدارس صافية العرق ، أسجل ذلك مع علمي أن هناك استثناءات من هذه الأمر معروفة و مذكورة أتذكرها وأقف عندها تحية و تقديرا.
كما أن هناك صنفا ثالثا من المدارس يمكن تسميته بالمدارس "الطبقية " و سميتها كذلك لأنها موجهة إلي طبقة معينة من المجتمع و هي مدارس ترفع أعلام دول أجنبية وتدرس مناهجها و تنصح إن لم تكن تفرض أحيانا زيا مدرسيا موحدا مستوحي من ألوان أعلام تلك الدول و أساتذتها غالبا أجانب.
تلاميذها من أبناء الطبقة العليا من الأثرياء القدامي و الأثرياء الجدد من المجتمع و من أغرب منتسبيها ما يتداول علي نطاق واسع من أن أبناء وزراء التعليم علي مر الدولة الموريتانية الحديثة تابعوا و يتابعون دراستهم بها الأمر الذي لو حدث في بلدان أخري لكان مدعاة للاستقالة أو الإقالة.
و إذا كانت المدارس في بلادنا كما اتضح من التحليل السابق إما شبه شرائحية أو شبه عرقية أو طبقية فلا يستغربن مراقب و لا محلل و لا " مستهلك عادي للمعلومات و الأخبار" من سخونة العنصرية و الشرائحية و المناطقية في بلادنا.
بل إن تلك الظاهر مرشحة لمزيد من الغليان ما لم تحدث وثبة وطنية بمقاس و قدر و مقدار التحدي بعيدة عن نمطية و"برودة" تصور الاستراتجيات و الخطط قصيرة المدي و النظر ذلكم أن المشاكل الجذرية لا تعالج إلا بحلول ثورية و الأهداف المصيرية لا تنال إلا بالوسائل الغير تقليدية.
و سعيا إلي ختام هذه "المقال-التنبيه" بمقترح عملي للخروج من ورطة فساد أو إفساد التعليم تلح علي ذهني فكرة غير تقليدية ملخصها مطالبة فرقاء الهم الوطني الذين يتبادلون المهدئات و " المقبلات"appetizers استعدادا للشروع في حوار وطني بلا سقف و لا محاذيرأن يبدأوا بما بدأ به القرءان.
و يقرروا إجماعا تخصيص عائدات بعض الثروات الوطنية كالغاز و النفظ و الذهب لمدة عشر سنوات لتمويل "صندوق تعليم الأجيال القادمة" الذي يخصص بدوره للتكفل بخطة عشرية لإصلاح التعليم و إعداد أجيال وطنية و مواطنية تربية و سلوكا و علما... قادرة علي وقاية بلدنا من فتن تتربص بنا الدوائر و ما لها من وقاية و لا علاج إلا إصلاح جريئ، ثوري و لا تقليدي للتعليم.
المختار ولد داهي