"هويتنا هي التحدي الجوهري" (الرئيس المختار ولد داداه)
... لا تزال "موريتانيا على درب التحديات" رغم بلوغها أشدها وأكثر.
ذلك أن مرحلة التأسيس التي خرجت فيها هذه الدولة من العدم إلى الوجود بفضل الله سبحانه وفضل عقول وسواعد أبنائها البررة، ثم ما لبثت أن أصبحت رائدة ذات مكانة معتبرة ودور إيجابي متميز بين الأمم، قد انتكست للأسف الشديد بسبب حرب الصحراء العبثية الكيدية والانقلابات الرجعية التي أعقبتها، فهوت مثخنة إلى الحضيض، وتداعت أسسها التي تآكلت بفعل الفساد والبغي.. وانهارت أواصر الوحدة الوطنية بين مكوناتها، فصارت على شفا الخراب.
فأصبح لا بد من ظهور مصلحين شجعان يضطلعون بمهمة إعادة التأسيس من جديد؛ فكانت كيهيدي ثالثة ورابعة تسير بحزم وعزم على خطى كيهيدي الأولى وكيهيدي الثانية... تلك هي حكاية هذه المدينة الرمز:
كيهيدي الأولى: في السنوات الأولى من عمرها عانت الجمهورية الإسلامية الموريتانية الوليدة أزمة بنيوية فرضتها متطلبات النمو، كادت أن تعصف بها لولا حكمة قادتها الذين شخصوا الداء وعالجوه قبل استفحاله. وتمثلت أعراض تلك الأزمة في أمور جوهرية منها:
* عدم ملاءمة النظام البرلماني الموروث عن الاستعمار وثنائية السلطة فيه لأوضاع بلد متعدد الأعراق، مترامي الأطراف، لا عهد له بالدولة،
• معضلة الهوية وصيانة الوئام بين المكونات،
• التعارض بين مؤسسة الدولة الوطنية والمؤسسة التقليدية،
• التعارض بين دولة الاستقلال الوطنية والنظام الاستعماري الجديد،
وقد وجد معظم هذه الأمور حلولا خلال مؤتمرات وندوات الحزب الحاكم، كالعزوف عن النظام البرلماني والأخذ بالنظام الرئاسي، وبقيادة الحزب الحاكم للدولة، والاعتراف والاعتزاز بالتنوع العرقي واعتباره مصدر غنى وتكامل لا سبب شقاق وتقاتل، وعدم تجديد المؤسسة التقليدية، والاستغناء عن الدعم المالي الفرنسي؛ إلا أن الخلاف عليها وعدم انصياع البعض لتلك الحلول أدى إلى تأجيل المؤتمر العادي الأول لحزب الشعب الوليد الذي كان من المقرر عقده في مايو 1962 وإلى تمديد أعمال مؤتمره المنعقد في انواكشوط بتاريخ 25 مارس 1963 الذي أخفق في حل معضل الهوية، كما كان سببا في استقالة الرئيسين سيد المختار انجاي وحمود ولد أحمدو - على التوالي- من رئاسة البرلمان، وانتخاب رئيس للبرلمان لم يرشحه الحزب الحاكم.
لقد أصبح من الضروري إذن تحقيق منعطف سياسي يحدد مسار البلاد من جديد ويجمع شملها ويحميها من المنزلقات التي أخذت تعصف بمحيطها الإفريقي والعربي. ويومها يمم الرئيس المختار ولد داداه مدينة كيهيدي معلنا مقولته المأثورة: "لا يهمنا أن نعرف مدى تطابق قراراتنا مع القواعد التي وضعها الغير، وإنما الذي يهمنا هو أن نضع القواعد التي تستجيب لمتطلبات وضعنا.. وليس من شيمتي ولا مذهبي الميل إلى الدكتاتورية.. لكن من الإجرام أن نغوص في وحل الفتن والصراعات العقيمة" (موريتانيا على درب التحديات ص 317).
وفي كيهيدي عقد مؤتمر حزب الشعب الاستثنائي في يناير 1964 وفيه تمت إعادة التأسيس الأولى. "وقد شكل هذا المؤتمر - يقول الرئيس المختار ولد داداه- منعطفا مهما في تطور حزبنا بوجه خاص، وبلادنا بوجه عام، وتركت قراراته بصماتها القوية على ذلك التطور الذي عرف المكتب السياسي الوطني كيف يتكيف معه للقيام - على أكمل وجه- بدوره في عملية البناء الوطني التي ظل يؤطر ويقود إلى غاية يوليو 1978، رغم النواقص الخطيرة والصعوبات الكثيرة والعوائق الجمة" (نفس المرجع ص318).
كيهيدي الثانية: في فبراير سنة 1966 وقع المحظور بسبب تأخر تنفيذ حلول معضل الهوية والوئام الوطني الذي أخذ منحى ثقافيا حادا غذته المطامع والمناورات الاستعمارية الرامية إلى خلود الاستعمار الجديد وبقاء أداته (اللغة الفرنسية) مهيمنة وغالبة في موريتانيا. لقد كاد الخرق أن يتسع على الراقع وتنجرف البلاد في أتون الصراعات العرقية والانقلابات العسكرية لولا حكمة قادتها؛ وخاصة الرئيس المختار ولد داداه، الذي رفض رفضا باتا تحويل وجهة طائرته القادمة من باماكو إلى داكار وتدخل القاعدة الفرنسية في داكار في شأننا الداخلي، والذي تحمل مسؤولياته بكل شجاعة وحزم؛ والرئيس يوسف كويتا الذي تشبث بالوحدة الوطنية وظل يذكر "جميع المسؤولين الوطنيين (أثناء نقاشاتهم للأزمة) أن الشعب الموريتاني، الذي لا ناقة له ولا جمل في خصومات المثقفين التي بدأت تهزنا منذ بعض الوقت، يسمع ويرى وينتظر منا قرارات تعزز الوئام الوطني وتوطد وحدة الوطن الموريتاني، وعلينا أن لا نخيب آماله". ورغم نجاعة بعض الحلول الرسمية لهذا المعضل، وما حققته مبادرة إضراب مثقفي البيظان تضامنا مع مثقفي لكور في بو امديد من تقارب بين مثقفي الفئتين، وما قدمته الوحدة النقابية والوحدة الشبابية في انواكشوط وروصو وتجگجة في هذا المجال فقد ظلت جراح أحداث 1966 مستعصية على الاندمال. وهنالك كانت كيهيدي الثانية.
كان ذلك في يناير سنة 1970 أي في أوج ثورة الشباب على الاستعمار والرجعية والعنصرية والعبودية، حين توجهت طلائع من الشباب الوطني الديمقراطي (الكادحون) إلى كيهيدي فأذكوا الجذوة التي أضاءت السهل كله وبددت دياجير الانقسام والتخلف. لقد لبى النداء شباب رائع من صغار الموظفين والطلاب والتجار والنساء ينتمي إلى جميع فئات ومكونات الشعب الموريتاني، وهب ينسج خيوط ووشائج الوحدة الوطنية ويفجر النضال الوطني ضد الاستعمار والرجعية: محمد حرمة ولد اجد، باه عثمان رحمهما الله، لام حمادي، سينغوت عثمان، جينابا، حمود ولد إسماعيل، محمد الأمين ولد الطالب، دافا بكاري، با إدريسا، عبد الله ولد منه، با أبو.. وغيرهم.
وكانت رسل الوحدة الوطنية والعمل الوطني الديمقراطي تنطلق من وكرين حاتميين حصينين هما دار فضيلة رئيس المحكمة الابتدائية في كيهيدي فضيلة القاضي الفاضل والعالم الجليل ابن العلماء الأجلاء سيد أحمد ولد أحمد للهادي، ودار الأستاذ سينغوت عثمان وزوجته السيدة جينبا.
كان سينغوت واحدا من شباب الأنصار الذين وهبوا أنفسهم وأموالهم للقضية الوطنية وآووا المهاجرين في منالهم وتقاسموا معهم رزقهم. وأما العالم الجليل والموظف السامي الذي كان بعيدا كل البعد عما يهدف إليه الشباب فإنه لسماحته وجوده لم يتململ يوما واحدا من كثرة إقبال الشباب واختلاف مشاربهم وألوانهم أو يصغ لما تروجه السلطات عنهم من شائعات مغرضة ولم يقف في وجه أبنائه المناصرين أو يحاول التأثير في خياراتهم السياسية، ومن بينهم من أصبحوا اليوم نوابا.
اختلط الشباب في الدارين فأكل البيظان "شيبو جن" و"هاكو" و"باسي" في دار سينغوت، وأكل لكور "مارو واللحم" و"كسكس" وشربوا اللبن في دار سيد أحمد.. وناضلوا جنبا إلى جنب في الإعدادية والثانوية، وكتبوا شعاراتهم الثورية بالعربية والفرنسية معا لأول مرة على جدران كيهيدي ليلا، ودخلوا السجن معا. ولم يحل الحول حتى أسسوا معا منظمات التلاميذ والطلاب وقادوا معا إضراباتهم، ونظموا معا وقادوا إضراب العمال الشامل في بداية 71 بزعامة المرحوم باه محمود (ليلة عند الدرك) واجتاحت حركتهم النشطة شوارع انواكشوط في فاتح مايو 1971، وحوكموا معا وانتصروا معا يوم 18 يونيو 1971.
يوم اثمنطعش اخلگ لگبال ** بـين الحكومه والعمال
واخلگ لعصير افتـــــربنال ** وانفظحت فم الحكومه
بالرجفه وانواع التــــــذبال ** واطـياح العين القلومه
بيه مجموعه من لبــــــطال ** محبوسه كانت مظلومه
النــقابه گـــوم النـــــــضال ** عن ذي الحقوق المهضومه
واعرفن عن ذا ش موثوق ** الناس الكانت محكومه
گامت منتصره يوم الروق ** ليام الزيــنه ذوكــــومه.
يوم اثمنطعش
... وكان دخول الفوج الأول من أصحاب الشهادات العليا (التكنوقراط) في الحكومة، وحرية العمل النقابي، ومراجعة الاتفاقيات مع فرنسا، وإنشاء الأوقية.. ولم يتوقف ذلك النضال الوطني المشترك إلى أن تم الوفاق الوطني في مهرجان الشباب (أغسطس 1974) على برنامج الوحدة الوطنية، وفي مقدمته تأميم "ميفرما" وإطلاق سراح جميع المعتقلين، وإصدار عفو شامل عن المختفين والمجندين، وعقد مؤتمر وطني للشباب، وفتح وتجديد حزب الشعب على أساس ميثاق وطني جديد.. إلخ
يتبع
محمدٌ ولد إشدو