لا يخفى على المتتبع للشأن السياسي الموريتاني ما يعيشه مجتمعنا من تناقضات على مستوى الممارسة السياسية خاصة فيما يتعلق بالانتماء الحزبي فمنذ عرفت البلاد ما يسمى بالأحزاب السياسية ابتداء من الحزب الواحد إبان الجيل المؤسس إلى النظام الديمقراطي التعددي والمشهد السياسي الموريتاني يفتقد للوفاء الحزبي المتأصل والمتراكم نتيجة قناعة سياسية قوية تدفع للإيمان بالمنهج والانتماء لوجهة النظر.
وهو ما يعد هشاشة ظاهرة في استمرارية الأحزاب نفسها ككيانات تجمع بين مؤمنين بفكرة معينة ومنتمين لطرح سياسي موحد.
فكما هو معروف يعتبر الحزب كيانا هرميا يحوي أعضاء يتشاركون وجهة النظر ويملكون رؤية سياسية واقتصادية واجتماعية موحدة ويسعون للوصول إلى الحكم من أجل تنفيذ مشروعهم الوطني.
ومن هذا المنطلق تبرز الأهمية التي يشكلها الانتماء للحزب فهو الانتماء للرؤية الشمولية وللمنهج والعقيدة الفلسفية لإدارة البلاد ويصعب على الأعضاء التخلي عنها بسهولة.
لهذا يبرز التساؤل عن موضع الخلل في الممارسة الحزبية في موريتانيا وعن أسباب الترحال السياسي الذي أصبح سمة ظاهرة في الحياة السياسية ولماذا يغيب ما يسمى بالوفاء للانتماء الحزبي عندنا؟
فعلى خلاف معظم البلدان العربية تعتبر موريتانيا ذات نظام ديمقراطي تعددي فمنذ قررت الدولة في بداية عقد التسعينات التخلي عن النظام الشمولي والتحول إلى الديمقراطية تعددت الأحزاب السياسية في البلد حتى كاد عددها يفوق مجموع الأحزاب العربية مجتمعة.
وتعتبر ظاهرة الترحال السياسي هي السمة الغالبة في المشهد السياسي الموريتاني سواء فيما يتعلق بانتماء الأفراد للأحزاب أو كان يتعلق بثبات الأحزاب على مواقفها السياسية في انتقالها بين معارضة وموالاة.
ولدراسة المسألة سنميز بين الموضوعين لنناقش العوامل المؤثرة في وفاء الفرد لحزبه وكذا محافظة الحزب بحد ذاته على مواقفه وخندقه السياسي.
الأفراد وانتماءهم الحزبي
هناك عدة عوامل تتحكم في وفاء الفرد لحزبه وحفاظه على انتمائه.
-الإيديولوجيا
تعتبر الإيديولوجيا من أهم ما يستقطب المنتمين للأحزاب حيث أن بعض الأفراد يبحثون عن الحزب الذي ينطلق من مبادئهم ويتبنى وجهة نظرهم الإيديولوجية فهم يرتبطون بمشروع شمولي مشترك.
وهي الفئة الأكثر انتماء لأحزابها لكون تلك الأحزاب تنطلق من أساس فكري أو فلسفي أو قومي أو ديني وهي عوامل يصعب التخلي عنها بسهولة نتيجة مواقف أو أحداث ويعتبر أفراد الأحزاب الإيديولوجية الأكثر تحصينا أمام الهزات السياسية.
-المصلحة
حيث تكثر في الحياة السياسية طبقة لبراغماتيين السائرين وراء التيار ذي البضاعة الرائجة والذين يركبون موجة المرحلة ليسهل لهم البقاء قريبا من دائرة صنع القرار أو الابتعاد عنها نتيجة عداءات سياسية إذا كانت مصلحتهم تكمن في نصب العداء للسلطة.
فهم مرنون في انتماءاتهم وإنما المصلحة هي من تقودهم وتحكم توجهاتهم وانتماءاتهم.
-القبلية والجهوية
لا يخفى ما للقبيلة من تأثير على واقع الحياة السياسية الموريتانية فطبيعة المجتمع البدوية وانتمائه الحديث للمدنية جلب معه ارتباطه الوثيق بالقبيلة والجهة فلون الحياة السياسية باللون العشائري وأضفى على الممارسة السياسية بعدا جهويا وقبليا بحتا.
القناعة السياسية
سيكون من التجني اعتبار العامل الرئيسي في الانتماء للأحزاب في موريتانيا هو القناعة بالمنهج السياسي لكننا سنكون غير منصفين إذا اعتبرناه عاملا معدوما فهناك من لا يعير اهتماما للإيديولوجيا وقراره السياسي ليس رهينة لمصالح شخصية أو انتماءات وولاءات قبلية بل يبحث عن الحزب الذي يتبنى طرحا ونظرة واقعية تقترب من نظرته وتحليله للأمور.
الحزب وموقفه السياسي
لا تختلف العوامل المؤثرة في تبني الموقف ووجهة النظر السياسية للأحزاب عنها كثيرا مع العوامل المؤثرة في انتماء الأفراد وإنما يعتبر المستوى والاهتمام هما البون الذي يخلق تباينا بين تلك العوامل ويميز بينها في الدرجة.
وإذا أردنا قراءة للموضوع ينبغي الإجابة على السؤال.
ما الذي نقصده بالموقف السياسي؟
يقصد بالموقف السياسي مدى انحياز الحزب من عدمه للسلطة القائمة في البلد ووجهة نظره لطريق إدارتها للأمور. والحزب هنا إما أن يكون حزب السلطة نفسها أو حزب موالاة أو حزبا يتخذ المعارضة موقفا له مع ملاحظة عدم أبدية الموالاة وعدم استمرارية المعارضة لنظرا لعدم ثبات عامل البقاء في السلطة فتتغير المواقف تبعا لتغير الظروف والأحداث.
وانطلاقا من هذا التعريف وكما أسلفنا سابقا يجدر التنويه إلى أن العوامل المؤثرة على تبنى المواقف السياسية للأحزاب وتلك المؤثرة في انتماء الأفراد للحزب الواحد تتحد في بعض النقاط فالموقف السياسي عادة ما ينتج عن إيديولوجيا كما أن للمصلحة دورا كبيرا في اصطفاف بعض الأحزاب البراغماتية في صف معين إلا أن مواقف الاحزاب السياسية تنفرد بعوامل نجملها كالتالي.
موالاة من حيث المبدئ
تأخذ بعض الأحزاب من البقاء في كنف السلطة سبيلا للتأثير في القرار السياسي بغض النظر عن التوجه الذي تعتمده السلطة في إدارتها للبلاد وذلك من أجل أن تحقق تلك الأحزاب بعض الأهداف التي ترسمها لنفسها والتي ترى أنها لا يمكن أن تتحقق سوى بدعمها المطلق للنظام القائم سواء كان هذا النظام يشترك معها في المبادئ أو يختلف معها تمام الاختلاف.
الأجندات الخارجية
ترتهن بعض الأحزاب السياسية بولاءات خارجية لا علاقة لها بالمشاكل الداخلية للبلد فهي تسعى للتأثير على صناعة القرار السياسي من أجل أن يساهم في تدعيم المواقف المختلفة للأطراف الخارجية التي ترتبط بها ارتباطا. فهي تتخندق تارة كموالاة إذا كانت أجندتها تتحقق بوجود السلطة القائمة أو تكون في صف معارض إذا كان القرار السياسي لا يخدم تلك الأجندة.
لبراغماتية السياسية
تعتبر لبراغماتية السياسية عاملا مهما من عوامل اتخاذ الموقف السياسي للأحزاب فالنفعيون يكثرون عادة في تشكلات بعض الأحزاب السياسية وهم يميلون لمصالحهم أينما كانت وحيثما كانت. لهذا فليس غريبا أن بعض الأحزاب السياسية المعارضة ترتمي في احضان السلطة ولا يستبعد أن تصطف بعض أحزاب الموالاة في صف المعارضة إذا كانت الظرفية تتطلب ذلك.
معارضة من حيث المبدئ
هناك بعض الأحزاب التي تعارض النظام القائم بطبعها فهي إما أن تكون في السلطة وإما أن تكون في أقصى المعارضة حتى أنه أطلق عليها في وقت من الأوقات اسم المعارضة لكونها لم تحصل على فرصة إدارة البلاد ولو ليوم واحد وهي لا تنصف السلطة القائمة مطلقا ولا ترى الإجراءات التي تتخذها سوى مسطرة من الأخطاء والكوارث وهي وإن كانت تنطلق من هذا المنطلق إلا أنها الأكثر محافظة على موقفها السياسي.
وفي نهاية استعراضنا لبعض العوامل التي نعتقد أنها السبب في ظاهرة عدم الثبات السياسي تلك وسواء كان للفرد الحق في انتماءاته السياسية أو بقاءه من عدمه على وفاءه لحزب معين فإن حالة الترحال السياسي والتي انعكست على واقع الحياة السياسية للأحزاب فيما يمكن أن نسميه ترحالا في المواقف السياسية أصبحت ظاهرة سياسية محلية تستدعي التوقف مطولا.