يعتبر الصيام في رمضان في موريتانيا في فترة ماضية ـ ولا يزال حتى الآن
الى حد ما ـ حرية شخصية , فمن شاء فليصم ومن شاء فليفطر , وكل انسان حر في ما يفعل , ويلتمس لنفسه أي عذر يشاء , وهذا المظهر كان ضمن مظاهر سيئة أخرى لعلنا ـ ان مدّ الله في العمر ـ نتحدث عنها في وقت لاحق , وذلك كالاختلاط بين النساء والرجال في سيارات الاجرة مثلا , حيث كان الامر عاديا جدا.
ومع ان الصوم في بلادنا يعتبر عبادة ليس لها مرجعية محددة , بل تدخل في نطاق الحرية الشخصية , إذ ليس للدولة ولا لغيرها سلطان ولا تدَخلٌ فيها , فإن الصوم في دول اخرى وفي مجتمعات عربية ومسلمة يعتبر أمرا ملزما للجميع حتى من غير المسلمين , بمعنى أنه لا يجوز لأي كان , الجهر بالفطر في مكان عام أو أمام الآخرين , بل لا بد من الاستتار , عملا بالحديث الشريف : "إذا ابتليتم فاستتروا" , وقد تصل عقوبة المجاهرين بالفطر في بعض البلدان الاسلامية الى الجلد تعزيرا اوالسجن والغرامة , وذلك حفاظا على المظهر الاسلامي العام للمجتمع , واحتراما لشعور الصائمين , بالعكس تماما مما يمارس في بلادنا , حيث لا تكاد تفرق في شوارعنا وأسواقنا بين شعبان وشوال ورمضان , فالمطاعم مفتوحة , ورائحة شواء اللحم في الاماكن العامة تسيل اللعاب , و"كؤوس الشاي" تعرض على الجميع.
في هذا السياق , أتذكر اول رمضان صمته خارج البلاد في إحدى الدول الخليجية , وكان معي صديق عزيز ومقرب الى نفسي , وكان الجو في تلك السنة شديد الحرارة , وبعد صلاة العصر اخبرت صديقي برغبتي بالمشي أو الجلوس قليلا في إحدى الحدائق العامة القريبة منا , حتى يخفف جوها الرطب من شدة العطش الذي أشعر به , خاصة وأن هذا اول يوم في رمضان.
خرجنا الى المتنزه , وكان صديقي ـ عفا الله عنه ـ مفطرا , وحين استقر بنا المقام على أريكة في زاوية من زوايا الحديقة الجميلة التي تعج بالعائلات والافراد في مثل هذا الوقت , حيث يطيب لبعضهم أن يتناول إفطاره مع افراد أسرته بين هذه الورود والازهار الندية التي يفوح شذاها عطرا وريحانا , فيُحضر معه كل ما لذّ وطاب من اصناف الحلويات والمرطبات , عندما جلسنا على الاريكة , أخرج سيجارة وأشعلها وبدأ يدخن وينفث دخانه عاليا على مرأى من الجميع , فاندهش البعض , وأسقط في يد البعض , وأصبحنا ـ فجأة ـ محل اهتمام ونظر الجميع.
ويبدو أن أحدهم سارع الى رجل أمن في الحديقة وأخبره بما يجري من "منكر" , حيث اقبل علينا وعلامات الغضب بادية على وجهه , وقال : كيف تدخن وانت في رمضان , أوَ لستَ مسلما , ألست صائما , ألا تعلم أنك فعلت أمرا خطيرا تستحق عليه كيت وكيت؟
فأجابه صديقي ببرودة أعصابه المعهودة , والجميع يلتف حولنا يريد أن يعرف ما الذي يجري :
"يخويَ انت امالك ترتعد وتنتفخ وتنفش؟ آن ماني صايم , كَـطْ اجبرت ازكَـارْ" فلم يفهم رجل الامن ما قال صديقي , فحاولت أن أنقذ الموقف وأشرح ما الذي يعنيه فقلت : صديقي يطلب السماح منكم , فهو مريض ولا يستطيع الصوم وقد أحلّ له الشرع الفطر ما دام غير قادر , ولم أكد أكمل كلامي الا ودورية من دوريات الشرطة تلقي القبض علينا وتأخذنا الى المخفر, ولولا أن منّ الله علينا بأنّ ضابط المخفر يعرف أحد العلماء الشناقطة في البلد ويُجلِّه ويحترمه لكان للشرطة معنا تصرف آخر.
أطلق الضابط سراحنا بعد ان أخذ علينا تعهدا بعدم العودة لمثل هذا التصرف الارعن ولم يدعنا نذهب حتى عزمنا على مائدة إفطار كبيرة كانت معدة لأفراد الشرطة العاملين.