حكاية الرئيس المنصرف، الذي يعانق خليفته بحرارة ثم يشق طريقه مبتسما من القصر إلى دفء بيته وعائلته، تحت الأضواء وبين حشود الجماهير والمصورين، هي ضرب من الخيال، لم يعرف له تاريخنا السياسي طعما، كل رؤسائنا يأتون
القصر فجرا وهم يتسللون وحين يرحلون لا يكون لديهم الوقت الكافي ليودعوا أحدا.
الاستثناء الوحيد حدث ذات أمسية مكتنزة بالألوان من عام 2007، حملت نسماتها العليلة رائحة حلم أعياه طول السفر، حين عانق الرئيس الأسبق اعل ولد محمد فال، الرئيس السابق سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله في واحدة من أروع صور الزمن الجميل،
للأسف لم تكتمل تلك الفرحة أبدا، فقد سرقت الدولة العميقة نصفها الأول ثم عادت وسرقت نصفها الثاني وفي كلتا الحالتين حصل الأمر بتواطؤ من المعارضة،
بين 2007 و2019، سيكون قد انقضى عقد كامل من الفيسبوك والتويتر واليوتيوب…وكل أنواع الخروج عن النص والخروج على المألوف،
عقد كامل من الشعارات والتيه في الشوارع والساحات والثرثرة والصراخ والصخب والتنجيم وضرب الرمل وقراءة الكف والفنجان،
عقد كامل، قلب كل أمورنا رأسا على عقب، أصبح عدد حركاتنا الشبابية يفوق عدد انقلاباتنا العسكرية، تغيرت فيه الدنيا من حولنا، تغيرت طرق تفكيرنا وأكلنا وكلامنا وضحكنا وحزننا ونومنا وغضبنا وتغيرت حتى الطريقة التي نغازل بها نساءنا،
فهل يعقل بعد كل هذا الجنون، أن تبقى “المفاجأة” عالقة في نقطة تفتيش على حدودنا، تنتظر من يمنحها تأشيرة دخول!؟ من كان يتخيل أن الحاج الدكتور يحي جامى سيرحل ذات ليلة باردة؟ ويكيبيديا الموسوعة، لم تكتب عن خليفته آدما بارو سوى ثلاثة أسطر، يوم ولد ويوم أصبح رجل أعمال ويوم فاز بالكرسي الرئاسي، حتى هذه الأنسوكلوبيديا العالمية لم تتوقع أبدا ما حدث!
في أمريكا، عندما بدأت انتخابات الحزب الجمهوري لاختيار مرشحه للرئاسة، تهافتت وسائل الإعلام على دونالد ترمب وخصصت له مساحات واسعة من برامجها،
كانت تقدمه كمهرج، صورة الرجل المعتوه، الذي لا يمكن أن يصل أبدا إلى المكتب البيضاوي، لم يتوقع أحد أن صاحب الوجه المتجهم، الذي تغلب لغة الإيماءات على أحاديثه، سيؤدي بعد ذلك بأشهر معدودات، اليمين الدستورية في ساحة الكابيتول، بوصفه الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة الأمريكية!
انقضى الزمن الذي كان فيه رؤساء أمريكا يأتون من المكاتب الكبرى للمحاماة وأصبح علينا أن نفتش عنهم في أسواق العقارات وولت تلك الأيام التي كانت فيها السيدات الأول يقبلن من جامعة هارفارد العريقة وبات علينا أن نبحث عنهن في واجهات محلات الموضة وعلى منصات عروض الأزياء!
فرنسا، لم تسلم هي الأخرى من عصر التحولات السياسية التي لا تصدق، قبل أشهر قليلة كان الكلام عن الرئاسيات الفرنسية يجر مباشرة إلى الحديث عن هولاند وفالس وساركوزي وجوبيه، أرسل الفرنسيون هؤلاء جميعا إلى منافي بعيدة، وبات علينا التكيف مع أسماء أخرى جديدة: فيون وماكرون وآمون، السياسة مضحكة أحيانا،
لا توجد شعوب لا تضجر من واقعها، وهو يحتضر أغمض ستالين عينيه وعندما فتحهما رأى أقرب مقربيه، الذين كانوا يتحلقون حول سريره، وهم يرقصون فرحا، بعدما ظنوا أن الديكتاتور قد مات،
روزا باركس، سيدة سوداء كانت تعمل خياطة، دخلت التاريخ من أوسع أبوابه، لأنها رفضت أن تترك مقعدها في الحافلة لرجل أبيض، كما كانت تقضي بذلك قوانين الميز العنصري وقالت “لقد سئمت هذا الأمر”، عبارة غيرت وجه أمريكا وزرعت صاحبتها فوق الغيوم،
من هو رئيس موريتانيا القادم؟ سؤال نطرحه لا لكي نجيب عليه، بل نطرحه لكي نستفز واقعنا، لكي نسخر من أنفسنا ومن يومياتنا، لكي نشاكس زمننا السياسي العقيم ونعيد رسم اتجاهاته ومساراته،
ومع أن الإجابة على هذا السؤال، تبدو صعبة المنال، إلا أن كل الأشياء المحيطة بنا، تحثنا على أن نتخلص من كل توقعاتنا الحالية وأن نضعها في اقرب صندوق زبالة ثم نجلس وننتظر المفاجأة،
إذ لا يعقل أن تبقى “المفاجأة” عالقة في نقطة تفتيش على حدودنا نحن بالذات، تنتظر كل هذا الوقت، من يمنحها تأشيرة دخول!
المفاجآت السياسية لا نهايات لها ولا مواعيد لها ولا حدود لها وهي تشبه التاريخ، لأنها تعيد نفسها دائما، حتى لو حاول البعض زجرها أو منعها من ذلك.
الكاتب /البشير عبد الرزاق