
أرتأيت بالتزامن مع
إنطلاق فعاليات النسخة الوادانية الرابعة عشره من مهرجانات مدائن التراث ،
أن أتناول من خارج أجواء المهرجان موضوع المحظرة الشينقيطية ،
لما لها من إرتباط وثيق بالتراث و بمدائن التراث . إسهاما في إثراء الساحة الفكرية و الثقافية الوطنية ،
حيث شكلت المحظرة الشينقيطية تاريخيا صرحا معرفيا لتكوين الأجيال المتعاقبة في ظروف إستثنائية ذاع صيتها و انتشر عطاءها العلمي و المعرفي في المشرق و المغرب و أمتد الي إفريقيا .
ساهمت في نقل هذه المعارف و العلوم بين الأجيال و بشكل مستمر و منتظم .
ظلت أبوابها مفتوحة أمام الجميع بغض النظر عن الجنس أو العمر أو الخلفية الإجتماعية ، حيث أن الفوارق الطبقية كانت شبه معدومة و ذائبة تماما داخل محيط المحظرة .
أختصت و أهتمت أيما إهتمام بتدريس مختلف علوم الشرع و القرآن الكريم و الحديث الشريف و متون الفقه و السيرة النبوية الشريفة
بالإضافة إلي تعليم اللغة العربية و علم البيان و التاريخ و الشعر و النحو و غيرها .. ..
أعتمدت المحظرة آلية الحفظ و التلقين كمنهج أساسي في العملية التعليمية .
بدل الفهم و التحليل .
لما له من أثر مهم علي تنشيط الذاكرة بشكل مستمر .
فبتوجيه مباشر من فخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني ،
للقائمين علي شأن قطاع الشؤون الإسلامية و التعليم الأصلي أنذاك .
تقدمت موريتانيا بطلب قبول لمنظمة اليونسكو بإعتماد المحظرة كتراث موريتاتي خالص .
خلال الدورة الثامنة عشرة للمنظمة المقامة ببوتسوانا 2023 م .
في الوقت الذي تم فيه تسجيل العديد من عناصر تراثنا الثقافي المادي علي قوائم المنظمة بأسماء بعض دول الجوار و غيرها ،
جنوبا و شمالا و شرقا
مثل : الدراعة ، الملحفة، الحناء ، أتاي ، الكسكس ...الخ
دون مراعاة خصوصية المجتمعات أو أحقية الملكية الفكرية أو براءة الإختراع .
ما دفع منظمة الأمم المتحدة للتربية و العلوم و الثقافة اليونسكو بإعتماد و إدراج المحظرة الشينقيطية أو التعليم المحظري علي الأصح ضمن القائمة التمثيلية للتراث الثقافي العالمي الغير مادي للبشرية لدي المنظمة .
فمن بين الأدوار التي اضطلعت بها المحظرة الشينقيطية تأريخيا هي الحفاظ علي هوية البلاد ( الدينية ،الثقاية ، الحضارية ) . وتحصين المجتمع ضد أي وافد فكري لا ينطلق من المعتقدات الإسلامية.
بالإضافة الي المساهمة في نشر الإسلام وعلومه في ربوع الصحراء الكبري و غرب إفريقيا و مناطق حوض النهر وقطع الطريق أمام تربصات البعثات التبشيرية قبيل وصولها و توغلها داخل مناطق وسط إفريقيا إبان الحقبة الإستعمارية .
كما لعبت ايضا دورا إجتماعيا تمثل في لجوء عامة الناس الي إمام المحظرة بإعتباره قبلة أو وجهة قضاء ذات طابع عرفي في توثيق العقود و حل النزاعات و إصدار الفتاوي تارة أخري
وكأنه مرجعية دينية و قضائية .
ممارسات مازالت تداعياتها قائمة و سائدة حتي الآن داخل المجتمع و في المدن الكبري و خارجها رغم ترسيم الحكومة و تقنينها لدور الموثق المدني في هكذا حالات و تعاطي القضاء معه قانونيا.
من جهة أخري أعترف أحد الفرنسيين الذين حكموا موريتانيا خلال الفترة الإستعمارية بنجاح المحظرة الشنقيطية في تأدية رسالتها الحضارية مؤكدا أن المحاظر أنذاك قد تمكنت في عمومها من الصمود في وجه المستعمر و غزوه الفكري والثقافي و رفضها لمشروعه التوسعي شكلا ومضمونا ، مما جعل الثقة بين القائمين علي هذه المحاظر و المستعمر معدومة.
لتشكل لاحقا محطات تاريخية محورية في دعم المقاومة الوطنية فكريا و معنويا و مواكبة قيام الدولة المركزية ،الأمر الذي كان مدعاة للفخر و الإعتزاز .
جسده شعار و مهمة هذه المدارس المتنقلة علي ظهور الإبل ،والتي بين و وثق ملامح دورها التاريخي شعريا العلامة المختار ولد بونا في البيتين التالين .
و نحن ركب من الأشراف معتكف
أجل ذا العصر قدرا دون أدنانا
قد أتخذنا ظهور العيس مدرسة
بها نبين دين الله تبيانا .
إلا أنه و أمام هذا الإنتشار السريع و الواسع للعولمة و ما أحدثته من ثورة عارمة في المفاهيم و قفزة مذهلة في مجال الإتصال و المواصلات بالإضافة الي ما شكلته من تحديات كبري و خروجا علي الثوابت و القيم المجتمعية و الأخلاق في ظل إستباحة و هتك الأعراض و نشر الخصوصيات و غزو البيوت بمحتويات هدامة دون إذن مسبق.
في ضوء التحول الإقتصادي الرقمي و ما عاناه العالم من متاعب بسبب تداعيات الأزمات الإقتصادية و الصحية المتكررة و تأثيرات الحروب المتباينة .
و ما يشهده التعليم العام من توسع و تنافس غير متوازن مع المحظرة أمام قلة مواردها و قساوة ظروفها .
فإن المحظرة الموريتانية مازالت تقوم بمهمة نشر و نقل المعارف و العلوم في نقاط عديدة من داخل الوطن تستقطب و تستقبل من حين لآخر طلابا موريتانيين و آخرين من دول الجوار و بعض الوافدين من دول عربية و إفريفية
حيث أصبح من الضروري الإنصياع لمتطلبات المرحلة و محاولة خلق توافق و مواءمة بين مقررات المحظرة و حاجات السوق بغية توفير مزيد من فرص العمل لخريجي هذه المحاظر و الحد من أعباء البطالة مما سيمكنها من القيام بالدور المنوط بها لتكون في المستقبل أداة من أدوات نشر ونقل المعرفة و التنمية و وسيلة من وسائل توازن المجتمع في ظل المحافظة علي القيم الإسلامية السمحة و ما تجسده من تآزر و إعتدال و وسطية.
إستجابة لهذا المسعي أرتأت رابطة الأئمة أنذاك إنشاء محظرة نموذجية تتفق مع النسق القديم في المقاصد وتختلف شيئا ما في المضامن المنهجية مسايرة للعصر و الحداثة .
هدفها الوصول إلي تخريج علماء و فقهاء شباب بثقافة عصرية تلبي حاجات البلد وتسد أي عجز قد يحصل علي مستوي عدد الفقهاء أو مدرسي العلوم الشرعية أو اللغة العربية.......الخ.
في حين تأتي مصادقة مجلس الوزراء أنذاك علي مرسوم قرار يسمح لطلاب التعليمي المحظري بالإلتحاق بالتعليم النظامي عبر إمتحانات تنظم بشكل سنوي من طرف وزارة التعليم .
تجسيدا لرؤية فخامة رئيس الجمهورية
الرامية إلي تعزيز دور و مكانة التعليم المحظري داخل منظومتنا التعليمية .
و تهدف هذه الخطوة الهامة إلي إقامة جسور بين التعليمين
و تمكين التعليم الأصلي من لعب دور إضافي لإستقطاب المزيد من الطلاب خاصة في مراحل الإبتدائية و الإعدادية
و تخفيف كلفة التمدرس الإجباري علي المدرسة النظامية .
و هو ما سيتيح لطلاب المحاظر الحصول علي شهادات معترف بها من خلال الالتحاق بمراحل معينة من التعليم النظامي .
تجربة جديدة ستساهم بلا شك في تكريس التكامل و الترابط في المنهج بين التعليم المحظري والنظامي
لتجسير الفجوة بين مخرجات التعليمين ، مما سيعزز ويقوي مستقبلا من إستمرار عمليات الإندماج و تكافؤ الفرص.
تأسيسا لما سبق تعد المحاظر أو ما يعرف بالجامعات البدوية التقليدية التي أحتضنتها المدن التاريخية الأربعة المدرجة ضمن تراث اليونسكو ( وادان ، شينقيط ، تيشيت ، ولاتة ).
من أقدم و أشهر مراكز العلم و الإشعاع المعرفي و الثقافي في الصحراء الكبري،
حيث تأسست مع دخول الإسلام في القرون الهجرية الأولي ،
و شكلت عبر هذا التاريخ بؤرة تلاق ثقافي و مراكز إشعاع فكري بفضل علمائها الأجلاء و محاظرها المشهورة و مكتباتها الزاخرة بالمخطوطات النادرة ،
وهو ما شكل قلاعا حصينة و منيعة للحفاظ علي الثقافة العربية الإسلامية .
حيث برزت هذه المحاظر من رحم معاناة هذه المدن محققة شهرة واسعة في تدريس العلوم العربية الإسلامية.
1 - محاظر وادان : توصف بأنها أقدم جامعة بالصحراء حيث يعود تاريخ تأسيسها إلي منتصف القرن الثاني الهجري ( 146 ه ) ،
تضم مكتبات عائلية عريقة تحتوي علي مخطوطات نادرة تؤرخ لفترات و حقب قديمة جدا لأكثر من 8 قرون مثل : أقدم مصحف بالمنطقة كتب علي جلد غزال ،
أشتهرت بشارع الأربعين عالما و أرتبطت بحركة علمية نشطة ضمت نخبة من علماء الفقه و التفسير و اللغة .
كما تعد مصدرا لأغلب الأسانيد الفقهية بالمنطقة .
كان من أبرز أعلامها الطالب احمد ولد اطوير الجنة
صاحب الرحلة الشهيرة .
2 - محاظر شينقيط : ( القرن 11 - 12 م ) تعتبر مركزا تجاريا و إشعاعا علميا هاما و تاريخيا ،
ارتبط إسم البلاد بها ( بلاد شينقيط ) عرفت بمحاظرها الفقهية و مكتباتها التي تحتوي علي آلاف المخطوطات من شتي الفنون .
أشتهرت بتدريس الفقه المالكي و علوم اللغة .
كما كانت محطة رئيسية للقوافل التجارية و للحجاج و العلماء .
أنتجت محاظر شينقيط علماء شناقطة موسوعيين أشتهروا بالذاكرة القوية و الرسوخ في الفقه المالكي و النحو و البلاغة و القدرة علي مجاراة الأقدمين في الشعر و العلوم من أمثال: محمدالأمين الشينقيطي ( صاحب أضواء البيان ) الذي استقر به الحال بالمدينة المنورة انذاك بعد رحلة حج ، حيث أصبح من أكبر و أهم المرجعيات الدينية والفقهية بالمملكة السعودية و العالم الإسلامي .
و كذلك محمد الخضر الشينقيطي علامة و فقيه رحل إلي المشرق ،
و احمد امين الشينقيطي صاحب كتاب الوسيط .
الإمام الحضرمي عرف بقاضي الصحراء ،
و أيضا محمد ابن أبي بكر الحاجي و المختار ولد بونا وغيرهم .
3 - محاظر تيشيت ( القرن 11 م ) .
تيشيت مدينة تراثية علمية تقع علي طرف هضبة تكانت.
عرفت بمحاظرها التقليدية الكثيرة التي ساهمت بشكل ملحوظ في نشر المعارف و العلوم الإسلامية بالمنطقة.
و تميزت بمكتباتها الغنية بآلاف المخطوطات النادرة شكلت معقلا للفقه المالكي و العلوم الشرعية و اللغوية .
و ذاكرة علمية قوية ظلت صامدة عبر القرون كواحدة من أبرز حواضر العلم في موريتانيا و الساحل الإفريقي.
تخرج منها علماء أجلاء في الفقه و التصوف مثل : الشيخ سيديا الذي أرتحل إليها للنهل من مكتباتها ،
و كذلك علماء كبار من أمثال الحسن بن آغندي الزيدي و محمد و احمد أبني فاضل الشريف و غيرهم .
4 - محاظر ولاتة ( بيرو ) القرن الأول الهجري ،
أشتهرت مدينة ولاتة بكونها مركزا تجاريا محوريا و منارة علمية و ثقافية بارزة في الصحراء الكبري،
لقبت بمدينة ( العمارة و الصالحين و المخطوطات ) .
أزدهرت بها المحاظر الفقهية و زارها الرحالة إبن بطوطة .
تميزت بمكتباتها الغنية بالمخطوطات النادرة و عمارتها الطينية المزخرفة و المزركشة التي تجسد العراقة الثقافية .
تحولت إلي منارة علمية و ثقافية بعد توافد العلماء إليها من تمبكتو ، فاس ، تلمسان ، و الأندلس .
تخرج من محاظرها أنذاك كبار العلماء مما جعل ولاتة مركزا فكريا و محطة رئيسية لقوافل الحجيج .
إلي جانب محاظر المدن التاريخية الأربعة ظهرت محاظر عريقة أخري تاريخيا مثل آزوغي ، كمبي صالح ، أوداغست ،
بالإضافة لما ظهر لاحقا من محاظر في اترارزه ، تكانت ، الحوضين ، لعصابة ، كوركول، لبراكنة ، انشيري، آدرار و محاظر الشيخ ماء العينين في الشمال .. الخ .
كما برزت أيضا بعد الإستقلال محاظر أشتهرت بتبحرها في العلوم كمحظرة أهل عدود ، محظرة اباه ولد محمد الأمين ، و محظرة بداه ولد البصيري و هكذا دوليك ..
فهي في انتشار و توسع من حين لآخر كمنظومة تعليمية تقليدية راسخة ،
إذ لا تكاد تخلو أي مدينة أو حاضرة داخل الوطن علي الأقل من وجود محظرة .
بحيث أصبحت المحاظر الموريتانية كما كانت بفضل السمعة العلمية المتميزة وجهة و قبلة للطلاب الموريتانيين و الوافدين من دول غرب إفريقيا و بعض دول المغرب العربي ،
بالإضافة إلي طلاب من أوروبا و آمريكا خاصة ولايات اترارزه و تكانت ...
مما يعزز دورها الإقليمي كمنارات للعلم و الإكتساب .
بالتأكيد المحظرة الموريتانية ينبوع عطاء متجدد لا ينضب.
نفع الله بها الجميع
اباي ولد اداعة .

















