موريتانيا بين الوصفة الدولية وتحديات الاستقرار النقدي/ د. ختار ولد الشيباني خبير اقتصادي

أحد, 11/09/2025 - 09:48

تواجه موريتانيا في المرحلة الراهنة وضعًا اقتصاديًا تتقاطع فيه المحددات الداخلية مع الضغوط الخارجية، في سياقٍ تتزايد فيه درجة التبعية للنظام المالي الدولي ومؤسساته المانحة، وعلى رأسها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. فهذان الفاعلان الاقتصاديان صارا يشاركان بعمق في صياغة السياسات الاقتصادية الوطنية، عبر ما يُعرف ببرامج الإصلاح المالي أو الهيكلي، التي تُقدَّم بوصفها وصفات تقنية تهدف إلى تحقيق الاستدامة الاقتصادية، غير أنها في جوهرها تُعيد توجيه القرار الاقتصادي الوطني في اتجاه منطق السوق، وتفرض نمطًا من الانضباط المالي الصارم يتجاهل في الغالب خصوصيات الاقتصاد الموريتاني وطبيعته الاجتماعية الهشة.

إنّ المقاربة التي يتبناها صندوق النقد الدولي ترتكز على هدف رئيس هو تحقيق التوازنات الماكرو اقتصادية. ويُقصد بذلك تقليص عجز الميزانية، وضبط الكتلة النقدية، والتحكم في معدلات التضخم، وهي مقاربة تقوم على البعد المحاسبي أكثر مما تنطلق من الرؤية التنموية الشاملة.

فالتوازن المالي، كما يطرحه الصندوق، يُقاس بتحقيق مؤشرات رقمية محددة، ولو كان الثمن تراجعًا في القدرة الشرائية وتباطؤًا في النشاط الاقتصادي. ومن ثم، فإن الإصلاح المالي المجرّد من بُعده الاجتماعي قد يُفضي في الواقع إلى انكماش داخلي، يُضعف القاعدة الإنتاجية بدل أن يعزّزها

أما البنك الدولي، فينهج مقاربة مكمّلة تتمحور حول إعادة تعريف دور الدولة في الاقتصاد، من فاعلٍ منتجٍ ومخطِّط إلى مجرّد منسّق وضامن لآليات السوق. هذه الرؤية، وإن كانت تتماشى مع منطق الليبرالية الجديدة، فإن تطبيقها في السياق الموريتاني يُفرز اختلالات واضحة؛ إذ لم يتمكّن القطاع الخاص المحلي بعدُ من تحمّل مسؤولية الاستثمار المنتج، في ظل ضعف البنية التحتية، وهشاشة مناخ الأعمال، وغياب منظومة تمويلية قادرة على تعبئة الادخار الوطني.

وعلى صعيد السياسة النقدية، فإن انخفاض قيمة الأوقية لا يمكن اختزاله في متغيرات آنية كالعجز التجاري أو ارتفاع فاتورة الواردات، بل يُعبّر عن خلل هيكلي أعمق في البنية الإنتاجية. فالقوة الحقيقية للعملة لا تُقاس بحجم الاحتياطات من النقد الأجنبي، وإنما بقدرة الاقتصاد على توليد القيمة المضافة وتحقيق التوازن بين الإنتاج والاستهلاك. وعندما يضعف التصنيع، وتتراجع الزراعة، ويتقلص الاستثمار في القطاعات المنتجة، يصبح سعر الصرف انعكاسًا مباشرًا لعجز الاقتصاد عن خلق الثروة داخليًا

ومن هذا المنطلق، فإن استقرار العملة الوطنية لا يمكن أن يتحقق بمجرد التدخل النقدي أو الإجراءات التقنية للبنك المركزي، بل يتطلب تحولًا هيكليًا يهدف إلى تنويع القاعدة الإنتاجية وتعزيز الصادرات وتوجيه الموارد نحو القطاعات ذات القيمة المضافة العالية.

إنّ التجربة الموريتانية تُظهر أن تبنّي “الوصفة الدولية” لم يُفضِ بعدُ إلى تحقيق النمو المستدام أو الحد من هشاشة الاقتصاد، بل أدى أحيانًا إلى توسيع الفجوة بين الأهداف المعلنة والنتائج الفعلية. ولذلك فإن البلاد تحتاج اليوم إلى رؤية وطنية مستقلة للإصلاح الاقتصادي، تُوازن بين ضرورة الاستقرار المالي ومتطلبات العدالة الاجتماعية والتنمية المتوازنة بين الولايات.

من منظور تحليلي، فإن العلاقة مع المؤسستين الدوليتين يجب أن تُبنى على مبدأ الندية والتكامل لا على مبدأ الوصاية أو التبعية. فموريتانيا لا ترفض التعاون التقني أو الاستفادة من الخبرة، لكنها مطالبة بصياغة نموذج إصلاحي وطني منطلق من واقعها الهيكلي ومؤهلاتها الذاتية.

إنّ الاستقرار النقدي، في نهاية المطاف، ليس هدفًا محاسبيًا بل نتيجة طبيعية لاقتصاد منتج متنوع، يتمتع بسيادة قراره وبقدرة مؤسساته على رسم سياساته وفق المصلحة الوطنية العليا

د. ختار ولد الشيباني خبير اقتصادي

إعلانات

 

إعلان