مبادرة الاتحاد الإفريقي لاعتماد خريطة جديدة لإفريقيا

خميس, 09/18/2025 - 11:22

أعلن الاتحاد الإفريقي، في أغسطس 2025م، دعمه رسميًّا لحملة “صحِّحوا الخريطة”؛ التي أطلقتها بعض المُنظمات المدنية للمُطالبة باعتماد خريطة جديدة تُظهر إفريقيا ومكانتها الجيوسياسية بحجمها الفعلي بدلًا من خريطة ميركاتور Mercator القديمة التي تعكس صورة القارة بطريقة مُضلّلة ومشوَّهة.

 

تأتي هذه الحملة، التي تقودها منظمتا “إفريقيا بلا تنميط Africa No Filter”، و”تحدّث لأجل إفريقيا Speak for Africa”، متناغمةً مع جهود الاتحاد الإفريقي الذي يطمح إلى تصحيح الصورة الذهنية عن القارة التي ترسَّخت لعُقود طويلة، وبالتالي إعادة تعريف إفريقيا لذاتها بعيدًا عن السرديات الغربية التي تسعى إلى تقزيم القارة وتهميشها، وطرح تصوُّرات مُضللة بشأنها.

 

 

 

إسقاط ميركاتور وترسيخ الصورة النمطية “المُضلّلة” حول إفريقيا:

 

تعود معظم الخرائط المُعتمَدة مِن قِبَل المُنظمات الدولية أو المؤسسات البحثية والتعليمية إلى إسقاط ميركاتور، الذي ابتكره عالم الجغرافيا جيرارد ميركاتور Gerard Mercator في القرن السادس عشر لخدمة أغراض الملاحة وحركة الكشوف الأوروبية، وعلى الرغم من الشهرة الواسعة التي حظي بها هذا الإسقاط واعتماده معيارًا رئيسيًّا في رسم الخريطة العالمية لأكثر من أربعة قرون؛ إلا أنَّ هذا الإسقاط يُظهر تشوُّهات واضحة تتعلق بحجم الأقاليم الجغرافية مقارنةً بحجمها الحقيقي.

 

وتبرُز القارة الإفريقية كمثال واضح على هذه التشوُّهات؛ فعند مطالعة الخريطة المُصمَّمة طبقًا لإسقاط ميركاتور، نلاحظ أنَّ جزيرة جرينلاند الواقعة أقصى شمال المُحيط الأطلسي تبدو في حجم مقارب لقارة إفريقيا في حين أنَّ هذه الأخيرة أكبر منها بنحو 14 مرةً، كذلك تبدو أمريكا الشمالية أكبر من القارة الإفريقية، بينما هي في الواقع أصغر منها بكثير.

 

والسبب الرئيس في هذه التشوُّهات لا يبدو متعمدًا، وإنما يرجع إلى أنَّ هذا الإسقاط الأسطواني للخرائط تبدو فيه الأجسام أكبر حجمًا كلما تجاوزنا خط الاستواء شمالًا باتجاه الدائرة القطبية الشمالية، بينما يصغر حجمها كلما اتجهنا جنوبًا.

غير أنَّ هذه التشوُّهات التي أحدثها إسقاط ميركاتور وحرَّفت الواقع، لم تُكرّس فقط مغالطات جغرافية دامت لأكثر من أربعة قرون، بل عزَّزت أيضًا صورة نمطية مُضلّلة بشأن إفريقيا بوصفها قارةً صغيرةً تقع على الأطراف بعيدًا عن مركز الحضارة العالمي، وهي الصورة التي تتسق وتخدم الخطاب الغربي “الاستعماري” الذي لطالما كان يُرِّوج لإفريقيا بوصفها بقعةً جغرافيةً نائيةً، يقطنها سكان بدائيون يتفاوتون في أطوالهم وأجسامهم ويتشابهون في همجيتهم وبربريتهم، وكل ذلك من أجل تبرير الحملات الاستعمارية التي تدافعت على إفريقيا، زاعمةً أنها تحمل على عاتقها مهمةً إنسانية تتمثل في نشر الحضارة والتقدم في ربوع القارة السمراء، في إطار ما عُرف حينها بـ”عبء الرجل الأبيض”.

 

 

 

حملات لتصحيح الخريطة واستعادة الذاكرة البصرية المفقودة:

 

في إطار الجهود الإفريقية الرامية إلى إعادة الاعتبار لإفريقيا ووضع حدٍّ للسرديات التاريخية والتصوُّرات المغلوطة التي تكوَّنت عنها في أذهان الرأي العام العالمي، انطلاقًا من الخريطة المشوَّهة التي تُظهر إفريقيا بحجم أقل بكثير من حجمها الطبيعي، أطلقت بعض الجمعيات والمُنظمات المدنية حملةً موسَّعة لتصحيح خريطة إفريقيا كخطوة ضرورية لتغيير النظرة النمطية السائدة عنها من خلال طرح سرديات مُغايرة تُسهم في استعادة الذاكرة البصرية المفقودة، وتُعزّز صورة القارة باعتبارها موطنًا حضاريًّا يزخر بالابتكار ويُعزّز فرص النمو والتقدم.

 

هذه الحملة، التي تقودها مُنظمتا “إفريقيا بلا تنميط Africa No Filter” و”تحدث لأجل إفريقيا”، ترفع شعار “صحِّحوا الخريطة Correct the Map” من منطلق أنَّ إسقاط ميركاتور لا يُقدّم فقط تمثيلًا غير عادل لدول الجنوب العالمي بتصويره لها أصغر حجمًا مقارنةً بدول الشمال، بل يُسهم في ترسيخ الانطباع السائد بأنَّ إفريقيا ودول الجنوب مُهمَّشة ولا ترقى إلى منافسة دول الشمال التي تحتكر النفوذ والقوة.

 

ولتجاوز هذه الصورة المُضللة التي أصبحت من الماضي ولا تعكس مُعطيات الواقع، تدعو الحملة إلى إعادة النظر في خريطة العالم وتصحيحها من خلال استبعاد إسقاط ميركاتور، واعتماد إسقاط الأرض المتساوية بدلًا منه، كما تدعو الحملة كذلك إلى إدراج الخريطة الجديدة لإفريقيا في المناهج والمُقررات التعليمية.

 

ويهدف إسقاط الأرض المتساويةThe Equal Earth ، وهو إسقاط شبه أسطواني تم تطويره عام 2018م مِن قِبَل كلٍّ من “برنارد جيني “Bernhard Jenny من جامعة موناش الأسترالية و”توم باترسون Tom Patterson” من دائرة المتنزهات الوطنية الأمريكية، وأيضًا “بويان سافريتش “Bojan Savric، إلى إظهار الدول المتقدمة في الشمال وكذلك الدول النامية في الجنوب، بما فيها الدول الإفريقية، بأحجام مُتناسبة تعكس حجمها في الواقع دون تشوُّهات، من خلال إبراز الخطوط العريضة للقارات بطريقة بصرية جذابة ومتوازنة[1].

 

وقد أعلن الاتحاد الإفريقي دعمه وتأييده الكاملين لاعتماد إسقاط الأرض المتساوية، داعيًا المُنظمات الدولية إلى التخلّي عن خريطة ميركاتور، كما قدَّم طلبًا رسميًّا إلى اللجنة الأممية المعنية بالخرائط (UN-GGIM) التابعة للأمم المُتحدة لاعتماد الخريطة البديلة، من أجل تصحيح الصورة الذهنية العالمية عن إفريقيا.

 

وفي هذا الصدد قالت “سلمى مليكة حدادي”، نائبة رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي: إنَّ الأمر لا يتعلق بمجرد خريطة، بل بصورة ذهنية ترسَّخت لعقود، مؤكدةً دعم الاتحاد الإفريقي لهذه المُبادرة؛ لكونها تتماشى مع هدفه في استعادة إفريقيا لمكانتها المُستحقّة على الساحة الدولية، في ظل تصاعد الدعوات للمطالبة بتعويضات عن الحقبة الاستعمارية والعبودية[2].

 

ويعكس هذا الموقف إدراك الاتحاد الإفريقي لأهمية الخريطة، ليس لكونها مجرد أداة لتحديد الاتجاهات، بل بوصفها مخطوطة بصرية تصوغ علاقات القوة وتُعيد تشكيل المخيال العالمي، وبالتالي يُمكن قراءة دعم الاتحاد الإفريقي للمطالب الداعية إلى اعتماد إسقاط الأرض المتساوية على أنه خطوة تستهدف إعادة كتابة التاريخ الإفريقي بلغة بصرية جديدة، أملًا في الخروج من إطار التمثيلات النمطية التي تحصر القارة الإفريقية في خانة الفقر والأوبئة والصراعات المُسلَّحة، وإظهار الجوانب الأخرى التي تؤكد قوة القارة الديمغرافية والاقتصادية[3].

 

 

 

تصحيح الخريطة كخطوة رمزية لاستعادة المكانة الإفريقية:

 

يُمكن القول: إنَّ محاولة تبنّي أو اعتماد خريطة جديدة تُظهر إفريقيا ودول الجنوب العالمي بحجمها الحقيقي تشكِّل خطوةً رمزيةً لاستعادة الشعوب الإفريقية لمكانتها بين الأمم، فالخريطة التي ينشدها الأفارقة والاتحاد الإفريقي تُمثِّل جزءًا من مطالب استعادة الحقوق ومُعالجة المظالم التاريخية التي تعرَّضت لها دول القارة وشعوبها لأكثر من قرن على يد القوى الأوروبية الاستعمارية، كما أنَّ هذه الخطوة، رغم رمزيتها، يُمكن أنْ تُعزّز شعور الوحدة والانتماء بين أبناء القارة، وتوحي بقدرة إفريقيا على صياغة رؤيتها وبلورة تصوُّراتها حول ذاتها بنفسها، وليس بما يُريده الآخرون لها أو يُصوّرونه عنها.

 

فإفريقيا، ليست قارةً مهمَّشةً أو بعيدةً عن مركز الثقل الدولي كما تُظهرها خريطة ميركاتور، بل إن مُعطيات الواقع تشير إلى أنَّ إفريقيا تُعادل في مساحتها أوروبا والولايات المتحدة والصين واليابان مجتمعةً، ويقطنها أكثر من مليار نسمة وتضم بين حدودها 54 دولةً، كما أنها تكتنز في بواطنها الكثير من الثروات والمعادن الإستراتيجية التي تُعزّز موقعها كفاعل مؤثر في السياسات الدولية.

 

ومع ذلك، فإنَّ رحلة البحث عن خريطة جديدة تُعيد لإفريقيا وزنها الحقيقي عالميًّا، تبقى مهمةً شاقةً كونها تُمثل امتدادًا لمعركة أوسع تسعى خلالها القارة إلى تقديم سرديتها الخاصة وإسقاط السردية الاستعمارية التي هيمنت لقرون. لكنّ نجاح إفريقيا في هذه المهمّة سيُعزّز، بلا شك، رصيدها الدبلوماسي والاقتصادي، وهو ما يُمكن توظيفه واستثماره بشكل إيجابي للارتقاء بمكانة القارة الإفريقية بين الأمم[4].

 

في الختام، يُمكن القول بأنَّ دعم الاتحاد الإفريقي لاعتماد خريطة جديدة، تُظهر القارة بحجمها الفعلي؛ يحمل في طياته دلالات سياسية عميقة، فمن ناحية تعكس هذه المُبادرة تأكيد المُنظمة الإقليمية على الاستقلال الإستراتيجي للقارة وتجاوزها لحقبة التبعية السياسية، وتؤكد من ناحية أخرى إمكانية إعادة النقاش حول مسائل كامنة تتعلق بالتعويضات المُستحقة للبلدان الإفريقية عن العبودية والاستعمار؛ إلا أنَّ هذا التوجُّه من جانب الاتحاد الإفريقي يحتاج إلى إرادة سياسية حقيقية لترجمته إلى واقع فِعْلي؛ لأنه من غير المتوَّقع أنْ تستجيب الحكومات أو المُنظمات والتكتلات الدولية، وكذلك وسائل الإعلام العالمية، بسهولةٍ لهذه المُبادرة الساعية لاستبدال خريطة يعود العمل بها إلى عدة قرون بأخرى تم تطويرها قبل بضع سنوات.

 

بقلم: هشام قدري أحمد

المصدر: قراءات أفريقية 

 

 

إعلانات

 

إعلان