أُخرج النقاش السياسي حول تغيير النشيد، وتعديل العلم الوطني من مكانه الطبيعي في أروقة قصر المؤتمرات، إلى منابر المساجد ليلبس لبوس الدين، وما هو من الدين، بل هو من شؤون دنيانا التي نص الشارع على أننا أدرى بها...
تظاهر على عملية التحريف هذه أتباع اتجاه سياسي معروف بإخضاع أحكام الشرع لمصالحه.. )أنظر فتاوى الددو وخطبه حول الشيعة بين 2006 واليوم(،وآخرون أُتوا من طريق آخر...
لقد شجع على استثمار الدين في هذه القضية السياسية، وفي غيرها، تقليد دأبت عليه نخبتنا المثقفة ثقافة إسلامية؛ الخضوع للسلطة الفكرية، ومراعاة الروابط الاجتماعية، بدل الصدع بالحق اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، وإبراء للذمة بين يدي الله، حتى لا يصدق فينا قوله تعالى.."يستحون من الناس ولا يستحون من الله..." وقوله تعالى.."...أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين..." غياب النقد هذا، والخوف من الصدع بالحق )الحق ما ينقال كامل( هو الذي شجع أحدهم قديما، على الفتيا بجواز التيمم لمن لا يجد الماء إلا عند أصهاره، مستندا إلى قياس فاسد لم يسبق إليه وهو أن المشقة النفسية كالمشقة البدنية!!! ولا يعلم صاحبهم أن المشقة النفسية في لقاء أبي الزوجة لا أصل لها في الإسلام.. فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه جلس بين علي وفاطمة ومد رجليه.. وأصبح هذا التخرص "فتوى" تروى عن من ينتسب للعلم!!!
وكان للرجل خلْف في الثمانينات أفتى بجواز نهب المال العام، مستعملا قياسا آخر فاسدا جعل به المال العام "كشاة بفيفاء"، وقد شهد النبي صلى الله عليه وسلم لمولاه بالنار لشملة غلها على أرض معركة مفتوحة!!! ودون المال العام اليوم من الحروز ما الله به عليم...
على هذه الخطى السريعة إلى الفتيا يسير اليوم بعض المنتسبين إلى العلم فيصف، على صفحات جريدة حزبه السياسي، الشعب، وقادته ب"...الغوغاء والعامية يغيرون ما شاؤوا، فيغيرون هوية البلد، ويغيرون اسم البلد، ويغيرون نشيد البلد، بجرة قلم، وهو [هم] ليسوا مؤهلين لذلك. هذه قضايا شرعية يرجع فيها أولا إلى أهل العلم الشرعي." يعلم الموريتانيون، من غوغاء وعامية، وعلماء ربانيين أن مخرجات الحوار الوطني الشامل ليس فيها تغيير لهوية البلد، ولا تغيير لاسمه الذي أطلقه كبلاني دون استشارة أهل العلم الشرعي، وإنما المقترح هو تغيير النشيد الذي اختاره ولد الديين رحمه الله في انْدر في وحشة من أهل العلم الشرعي وعامية أهل البلاد وغوغائها.
والتغيير المقترح لن يتم بجرة قلم وإنما بعد استفتاء حر نزيه يقول فيه العامة والغوغاء وأهل العلم الشرعي رأيهم بالقبول أو الرفض. أما زعم أن تغيير النشيد ليصبح وطنيا من القضايا الشرعية "التي يرجع فيها إلى أهل العلم الشرعي." فيحتاج إلى دليل لم يقدمه من زعمه. ولم يسبق لأي من البلدان الإسلامية أن عدت نشيدها الوطني من القضايا الشرعية "التي يرجع فيها إلى أهل العلم الشرعي".
ولصاحب هذا القول بلا سند سوابق حين زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبلغه في المنام أن الحرب في اليمن بين حنابلة وشافعية وزيود جهاد في سبيل الله!!! والله سبحانه وتعالى يقول.."وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما..." فسماهم مؤمنين رغم اقتتالهم، وأمر بالصلح بينهم. ولم يدّع أحد من فرقاء حرب اليمن، خاصة الذين صيغت الرؤيا لصالحهم، أنه يقاتل في سبيل الله. ولم يجرأ أحد بالصدع أن تلك الرؤيا كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي لم يقبضه الله تعالى حتى عرّف في حديث صحيح الجهاد في سبيل الله.."من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله."
وفتح الباب في قضية إثراء العلم، وتغيير النشيد لتعد في العقائد!!! ويرفع اللون الأخضر والهلال والنجمة إلى مرتبة شعائر الله مثل الحجر الأسود والهدي والقلائد!!! وهو ما يعني أن المسلمين، من عهد النبي صلى الله عليه وسلم، عطلوا شعيرة من شعائر الله حتى جاء أحمد بزيد رحمه الله، في النصف الثاني من القرن العشرين، بجزء من علم وهران متمما لشعائر الله!!!
ثم أتت الطامة الكبرى على يد نائب خطيب المسجد السعودي الذي زعم من فوق منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن "الهلال شعار الإسلام بالكتاب والسنة وإجماع الأمة." )الخطبة بالصوت دون الصورة على موقع بلوار ميديا، نقلا عن صفحة الباحث إسماعيل يعقوب الشيخ سيديا(! سبحانك هذا بهتان عظيم. فكلمة شعار بدلالتها اليوم لم تكن متداولة في لغة العرب، ولم ترد في القرآن، وإنما وردت في حديث الأنصار أنتم الشعار والناس الدثار. والشعار هنا هو الثوب الداخلي الذي يلي شعر الجسد. والقصد في الحديث أن الأنصار خاصة النبي صلى الله عليه وسلم دون بقية الناس.
ولم يتخذ المسلمون، لا في عهد النبوة، أو الخلافة الراشدة، أو الدولة الأموية، أو العباسية، أو غيرها من دول الإسلام، الهلال شعارا، حتى قامت الخلافة العثمانية فأخذته عن الدولة البيزنطية. وقد ورد في كتاب التراتيب الإدارية للشيخ عبد الحي الكتاني رحمه الله (1 / 320( " اتخاذ الهلال شعارا لا يعلم له أصل في الشرع ، ولم يكن معروفا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا في عهد أصحابه رضي الله عنهم ، ولا في عهد التابعين ، وحيث لا تعرفه القرون الفاضلة ، فليس هو من سنة المسلمين ، وإنما انتقل إليهم من غيرهم .قال في "وفيات الأسلاف" : " وضع رسم صورة الهلال على رءوس منارات المساجد بدعة ، وإنما يتداول ملوك الدولة العثمانية رسم الهلال علامة رسمية أخذا من القياصرة ، وأصله أن والد الإسكندر الأكبر لما هجم بعسكره على بيزنطة ، وهي القسطنطينية ، في بعض الليالي دافعه أهلها وغلبوا عليه وطردوه عن البلد ، وصادف ذلك وقت السحر ، فتفاءلوا به واتخذوا رسم الهلال في علمهم الرسمي تذكيرا للحادثة ، وورث ذلك منهم القياصرة ، ثم العثمانية لما غلبوا عليها ، ثم حدث ذلك في بلاد قازان " انتهى .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله" :وضع الأهلة على المنائر قيل : إن بعض المسلمين الذين قلدوا غيرهم فيما يصنعونه على معابدهم ، وضعوا الهلال بإزاء وضع النصارى الصليب على معابدهم ، كما سموا دور الإسعافات للمرضى ( الهلال الأحمر ) بإزاء تسمية النصارى لها بـ ( الصليب الأحمر ) وعلى هذا فلا ينبغي وضع الأهلة على رؤوس المنارات من أجل هذه الشبهة ، ومن أجل ما فيها من إضاعة المال والوقت " انتهى .
"مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين" (13 / 941(.
ينظر جواب السؤال رقم : (1528)
فأين ما تقدم من زعم أن "الهلال شعار الإسلام بالكتاب والسنة وإجماع الأمة."!!! وإذا أخذنا بهذا القول الذي لا أصل له تكون المملكة العربية السعودية قد تنكبت الكتاب والسنة، وخرقت إجماع الأمة بعدم اتخاذها الهلال شعارا في علمها الوطني، والحال نفسها تنطبق على الإمارات العربية المتحدة، ودولة الكويت، وإمارة قطر وغيرها من دول الخليج العربي الشقيقة أدام الله عليها نعمه...
كما أنه لا أصل لما ذهب إليه الشيخ من أن " الحمرة، عند أهل الفنون التشكيلية، تشير إلى الجريمة." فاللون الأحمر، في رمزية الألوان يشير إلى معاني إيجابية مثل الشجاعة، والرجولة، والحيوية، والحب... وليست الجريمة ضمن ما يرمز إليه الأحمر من معاني سلبية. وما دام يعتقد، وغيره، الشر في اللون الأحمر فلماذا لم يحتجوا على اتخاذ "الهلال الأحمر" شعارا للإسعاف الطبي عند المسلمين!!!
خلاصة القول أن على المنتسبين إلى العلم اتخاذ الحيطة والحذر حين يطلقون الكلام على عواهنه، دون تمحيص. فقد أصبحت المعارف متاحة لمن أراد البحث عنها، ولم تعد الأنساب، والألقاب، والروابط الاجتماعية كافية لتمرير فتاوى وآراء بلا سند. فلم يعد الموريتانيون اليوم يكتفون بالظن أن صاحب الإغراب )ألا عند لُ شِ(، وإنما يطالبون بالدليل مخافة أن يكون المتنطع من الذين قال الله فيهم.." وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۖ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ۖ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9(." الحج. فالواجب على المسلمين حماية دينهم من تخرصات أهل السياسة، وأصحاب الأهواء.. حتى لا تصبح المنابر متاجر تعرض عليها الفتاوى، والآراء حسب الطلب...
وليعلم الذي يجيشون الشارع، ويستغلون المنابر أن من يحاول بعث "الربيع" في عهد صعود ترامب، وسقوط ساركوزي، كمن يبحث عن "الحب في زمن الكوليرا"...
الدكتور محمد إسحاق الكنتي