باب ولد الشيخ سيديّا؛ عالم وشاعر ومجدد إسلامي من بلاد شنقيط، وعَلم من أعلام الأمة الإسلامية ورموزها، وصاحب رؤية سياسية تنطلق من محورية الأمن والاستقرار وتركز على الواقع وتستحضر المآلات، وبناء على ذلك قَبِل التعامل مع الاحتلال الفرنسي صونا لدماء المسلمين وأعراضهم، كما ساهم في قيام الدولة المركزية في موريتانيا، وهو من الذين أخذوا على عاتقهم تنقية ما أثر على مفاهيم الإسلام من أردان الشعوذة والدجل في القرن الـ19 وبداية القرن الـ20، حتى توفي عام 1924.
المولد والنشأة
ولد باب ولد الشيخ سيديّا عام 1860 في مدينة بوتلميت، التي تبعد 150 كيلومترا شرق العاصمة نواكشوط، ونشأ في بيت أبيه الشيخ سيدي محمد وجده الشيخ سيدي الكبير المعروفين بمكانتهما الاجتماعية والعلمية والروحية في غرب أفريقيا.
وتعد عائلة آل الشيخ سيديّا مدرسة علمية ضاربة الجذور في العمق المعرفي وذات تأثير كبير في المجتمع الموريتاني.
فوالده سيد محمد من أبرز الشعراء في عصره، وله مكانة علمية وأدبية متميزة، كما أن جده الشيخ سيديا الكبير كان من أشهر العلماء وشيوخ التصوف في بلده وله مكانة علمية كبيرة تستقطب طلاب العلم والقاصدين للحاجات من كل حدب وصوب.
وفي ذلك العطاء الثقافي الغزير نشأ الشيخ باب وعاش بدايات طفولته في حضن والده وجده.
وعندما بلغ الثامنة توفي جده ووالده، فعاش في ظلال الحاضنة العلمية والروحية لوالديه، وتولى الزعامة القيادية للقبيلة قبل أن يبلغ الحلم فكانت طفولته مثقلة بحمل شؤون مجتمعه ومشاكل الأتباع والمريدين لأسرته.
الدراسة والتكوين
بدأ في الدراسة منذ نعومة أظافره، وأبصر نور العلم في محظرة والده (وهي جامعة بدوية تدرس فيها جميع العلوم الشرعية واللغوية وهي سمة للثقافة الشنقيطية) فأكمل حفظ القرآن الكريم قبل أن يبلغ سن العاشرة.
تفرغ بعدها لدراسة العلوم الشرعية واللغوية على يد عدد من العلماء كالشيخ أحمدو بن سليمان الديماني، والشيخ محمدو بن حنبل الحسنين والشريف الشيخ أحمد بن ازوين، وغيرهم من أعيان العلماء.
فأحاط بكل الفنون التي تُدرَّس في بلاد شنقيط، كما أعانته المكتبة الكبيرة التي تركها والده على المطالعة في شتى المؤلفات، حتى تفتحت مداركه وتوسعت نظرته، فخرج من عباءة الضيق والجمود إلى رحاب التجديد والتوسع.
وبفعل العناية التي حظي بها والملكات العقلية التي حباه الله بها، تصدّر المجالس العلمية في مرحلة مبكرة من شبابه، وأصبح واحدا من العلماء الذين يُرجع لهم في حل المشكلات والمستجدات الفقهية، فذاع صيته وانتشر أمره بين الناس.
التوجه الفكري
تلقى الشيخ باب ولد الشيخ سيديا تعليمه في بيئة شنقيطية تلتزم بالمذهب المالكي وتتشبث بفروعه وحيثياته، كما عايش انتشار التيارات والطرق البدعية التي تدّعي اعتناقَ المذهب الصوفي، فنادى بضرورة الرجوع إلى أصل الدين والسير في نهج سلف الأمة الصالح، في الالتزام بالكتاب والسنة.
وقد وقف في وجه أهل البدع والنحل، وحارب المشْيخة الصوفية النفعية التي كانت مزدهرة آنذاك، وطالب بالكف عن أكل أموال الناس بلباس العلم والرقية والتدين.
وكان من الدارسين لمؤلفات ابن تيمية، كما كان يطالع من بين مطالعات عديدة مجلة العروة الوثقى التي تنظر للنهضة والإصلاح في القرن الـ19.
ورغم كل ذلك فقد كان بعيدا عن التشدد والغلو في الدين، بل كان يصادق المتصوفين الربانيين، ولا يتبنى نظريات التكفير، فقامت مدرسته الفكرية على الالتزام بالأصل والدليل والتعايش مع الواقع وعلاج مساوئه.
وقد طرق فتح باب التجديد والاجتهاد، الذي لم يكن معروفا في الصحراء وغرب أفريقيا، ونادى بضرورة الاعتماد على الدليل الشرعي وعدم التعصب لمذهب معين، والانفتاح على جميع المذاهب الفقهية.
موقفه من الاستعمار الفرنسي
كانت موريتانيا في القرن الـ19 تعيش على وقع الاقتتال والتناحر بين الإمارات القبلية، التي نتج عنها الصراع العشائري وانتشار الظلم والاضطهاد والسلب والقتل، ولم تكن هنالك سلطة مركزية تشكل حماية للناس، بل كانت البلاد في حالة من الشغب والفوضى حتى سميت بـ"بلاد السيبة" أي البلاد السائبة التي لا يحكمها أحد.
وقد عايش الشيخ باب تلك الأزمات، واعتبر دخول المستعمر قادما لا محالة، فرأى التعامل معه ضرورة ملحة من أجل وجود سلطة مركزية تبسط الأمن والاستقرار وتقوم برعاية المصالح العامة من جهة، ولأن المواجهة معه غير متأتية ولم يكن مقدورا عليها من جهة أخرى.
وكان من أوائل الذين أجازوا التعامل مع الاستعمار الفرنسي، ووقع مع الفرنسيين اتفاقا مهد لدخولهم البلاد عام 1903، ومن بنوده ألا يتعرضوا للناس في شعائرهم وعباداتهم، وأن يلتزم النصارى بعدم السعي إلى إخراج الناس من دينهم.
وقد انطلق في موقفه المجيز للتعامل مع المستعمر من قاعدة سد الذرائع والحفاظ على أرواح المسلمين، ذلك أن الإمارات الأهلية في فترته كانت تعيش صراعا دمويا، كما أن الحروب القبيلة والانفلات الأمني من أبرز المظاهر التي عايشها، فرأى جواز الاستعانة بالفرنسيين لبسط الأمن ونشر السكينة بين السكان.
كان للشيخ باب ولد سيديا صلات قوية وعلاقات وطيدة وصداقة شخصية مع الحاكم الفرنسي "كزافييه كبلاني"، وبعد مقتله من طرف المجاهدين عام 1905 نسج علاقات خاصة مع خلفه الجنرال هنري غورو، وطلب من الناس الدخول في حكمه.
ووافق توجهه بمهادنة المستعمر عدد من العلماء الذين اعتمدوا طرحه الفكري، ومن أبرز الذين ساروا معه الشيخ سعد أبيه بن الشيخ محمد فاضل.
لكن عددا آخر من العلماء والمجاهدين كانوا على نقيض كامل مع مواقفه، فأفتوا بوجوب الجهاد ضد الفرنسيين مثل العلامة الشيخ ماء العينين بن الشيخ محمد فاضل والعلامة الشيخ محمد العاقب بن مايابى.
المؤلفات
ترك الشيخ باب الكثير من المؤلفات، التي تعكس مشاكل الواقع الذي كان يعيشه، ومن أبرز كتبه التي طبعت:
"إرشاد المقلدين عند اختلاف المجتهدين"، وهو الكتاب الذي عكس منهجه في الاجتهاد وضرورة التوسع في الفهم والانفتاح على جميع المذاهب الفقهية.
"رسالة في إعجاز القرآن".
"رسالة في كيفية الصلاة وما يقال فيها".
"تاريخ إمارتي مشغوف وإدوعيش".
وكان الشيخ باب سلس العبارة وشاعرا بالطبيعة، فقد تميز شعره بجودة المبنى وقرب المعنى، حتى طرق جميع الأغراض من نسيب وغزل ورثاء ومديح، وأكثر من الإرشاد والوعظ.
وقد اختيرت إحدى قصائده نشيدا وطنيا لموريتانيا منذ استقلالها 1960 حتى عام 2017 حيث جاءت الحكومة بتعديلات دستورية طالت النشيد والعلم للتعبير عن تضحيات جيل مقاومة الاستعمار.
ومن شعره في التضرع واللجوء إلى الله:
يا ربّ إني إلى رحماكَ محتاجُ وأنت من ترتجى من عنده الحاجُ
منهاج قصدك للحاجات إن حضرت لا ريب في أنه للفوز منهاجُ
ومن يؤمك للحاجات معتمدا منه سيحمد عند الصبح إدلاجُ
الوفاة
توفي ظهر الخميس العاشر من يناير/كانون الثاني 1924 بعد صراع مع المرض، ودفن في مقبرة العائلة بالبعلاتية في ضواحي مدينة بوتلميت.
المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية