يقع كثير من المعلقين على قضية الإساءة التي وقع فيها خطأ النائب محمد بوي ولد الشيخ محمد فاضل فيما يعرف بأسر النموذج أو الاستئسار للنموذج الذهني، المألوف كقالب لتحليل المواقف والقضايا.
والطريف أن كثيرا من الذين يحللون ويعلقون انطلاقا من هذا النموذج لا ينتبهون غالبا إلى أنهم يصرون على استدعاء نموذج كانوا إلى وقت قريب يلعنونه، وكأنهم يتمنون محط لعناتهم السابقة!.
لم يدرك هؤلاء بعدُ الفرق بين حقبة وأخرى، ولا بين أسلوب حكم وآخر؛ فقد تعودوا في السابق أن ينسبوا كل فعل، صغر أو كبر، إلى رئيس الدولة، وأن يجدوا موقع الرئاسة طرفا مباشرا في كل أزمة، وله بين كل متشاجرين "عدو وصديق" على حد تعبير المرحوم جمال ولد الحسن.
كانوا في السابق يلعنون انحشار مؤسسة الرئاسة في صغائر القضايا وكبائرها، فلما وجدوا رئاسة تنأى بنفسها عن القضايا، غلب عليهم استدعاء نموذجهم الذهني عن أن يعقلوا النموذج الذي كانوا يتمنون!.
منذ مجيء الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني إلى السلطة قبل أربع سنوات أقسم على نفسه أن ينأى بموقع الرئاسة عن الصراعات الجزئية والمواقف الحدية، وخلى بين كل أجهزة الدولة وصلاحياتها كاملة، واستطاع الصبر عن كل دواعي التدخل، التي ليس أقلها اتهام الآخرين له بالتدخل؛ فما الذي يربحه من النأي بنفسه عن القضايا إذا كان يدفع ثمن الانخراط فيها إعلاميا؟
الحقيقة أن الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني لا يدفع هذا الثمن، وإن توهم من نصبوا أنفسهم لخصومته أنهم يُدَفّعونه الثمن بالزج باسمه في كل صغيرة وكبيرة، لكنهم في الواقع ينفقون من رصيدهم الأخلاقي باستدعاء اسم رجل ينأى بنفسه، وموقعه عن الصراعات، ويعاملهم بمنتهى الاحترام واللباقة.
منطق الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، الذي يصر على تأكيده في كل مرة، هو أنه رئيس للجميع وفوق الجميع، ومنطوق هذا المنطق في قضية النائب، الذي أساء إلى الجناب النبوي خطأ، أنما حدث حدث تحت قبة البرلمان، وهو شأن برلماني لا يعني الرئاسة إلا من حيث حراسته أن يصل إلى خرق دستوري، أو يهدد أصل الديمقراطية. وهو ما لم يحدث لحد الساعة في الأزمة الحالية، ولا يتوقع أن تصل إليه الأمور.
دعك من حديث السياسيين عن "الدكتاتورية الجديدة"، وعن "الخروق الخطيرة". هذه لغتهم التي لا يحسنون غيرها، ولو لم تقم الضجة الحالية لوجدوا الوقت و"الشجاعة" لكتابتها، لأن قط الجيران أكل فرخا نافقا لدجاجتهم!!.
الخطأ الذي وقع فيه النائب أوقعه في كارثة تناقض أخلاقي، لا ينجيه منه إلا أن يتحول إلى ضحية، كما يحاول مغرضون، ومكرة أن يحولوه. التناقض الأخلاقي أبان أن النائب يتخذ من النصرة مطية سياسية لا يتورع عن ركوبها في أي اتجاه، حتى ولو عاد بالنقض على شعار النصرة الذي يرفعه.
من يريدون الزج باسم الرئيس في الملف واحد من اثنين؛ موال متحمس يسعى لإثبات ولائه للرئيس عبر اختلاق دفاع عنه في قضية ليس طرفا فيها، أو سياسي ماكر يريد أن تجري المعركة، بين النائب المخطئ والنواب الساعين لرفع الحصانة عنه، على أرضية غير أرضيتها الحقيقية؛ فالأرضية الحقة للمعركة هي نقل نائب برلماني إساءة للجناب النبوي إلى قبة البرلمان وإعادة نشرها على نطاق أوسع مما حلم به أحنق منتجيها ومروجيها.
الذين يسعون إلى الزج برئاسة الجمهورية في قضية الإساءة للجناب النبوي من السياسيين يريدون إدخالها في ورطة؛ فإذا هي حالت بين النواب وبين مقاضاة زميلهم تكون قد تدخلت في سير عمل البرلمان، وسنت سيئة بإعاقتها عملا برلمانيا من صميم عمل نواب الشعب. وبالتالي فهم يرفعون شعار خرق الدستور لإحراج الرئيس الذي هو حامي الدستور، مستدلين بالمادة ٥٠ التي تمنح النائب حصانة من المتابعة على آرائه، متناسين ما به ينادون من أن "الإساءة ليست رأيا"، وهي فعلا ليست كذلك. بقي أن يفتوا في القضية من حيث الموضوع؛ هل ما قاله محمد بوي إساءة؟
هذه مسألة لا يمكن أن يجاب عنها إلا عن طريق حكم قضائي نهائي، وهو ما لا يتأتى دون رفع الحصانة. إن مصلحة النائب محمد بوي أن ترفع عنه الحصانة حتى يتبين الرأي العام حقيقة ما قاله، وحتى ينال جزاء ما اقترف، إن كان اقترف جرما، لعل الله يكفر عنه بعض ذنب الإساءة. إن كان ارتكبها فعلا.
لا يهتم خصوم ولد الشيخ محمد فاضل، وهم كثر، (وليس من بينهم الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني) أين وصلت القضية بعد الآن؛ فخصمهم في ورطة؛ إما أن يفقد مقعده وحصانته بشكل مؤقت، ويجلس في مخفر شرطة، أو قفص اتهام في محكمة للتحقيق بشأن تهمة كان حتى الأمس القريب يرفع راية اتهام الآخرين بها، وإما أن "تنقذه السياسة" ولعب دور الضحية فيفقد مصداقية زعم الدفاع عن الجناب النبوي، إذ لو كانت استماتته في الدفاع عنه صادقة لما استكثر فقدان الحصانة بشكل مؤقت ثمنا لتبرئته من تهمة الإساءة.
لقد أعطى محمد بوي خصومه سكينا ذا حدين، وهم لا يبالون بأيهما ذبح، وعليه أن يختار ذبحته بنفسه؛ إما ذبحة مؤقتة تبرئه من تهمة الإساءة للجناب النبوي، وإما الاحتفاظ بالحصانة والمقعد والاحتفاظ معهما بثوب اتهام بالإساءة لجناب النبي صلى الله عليه وسلم، حالت السياسة دون تمحيصه! فليختر. وما غبن من خير.
محمد عبد الله لحبيب